الوجه البشع للإعلام المعاصر في زمن الترند

 الكاتب /الجمال بيرة

إن ظاهرة نشر صور الحوادث والمآسي، بما في ذلك عرض الجثث وضحايا الحروب والكوارث في وسائل الإعلام، تتعارض بشكل صارخ مع القيم الأخلاقية والإنسانية، كما تمثل انتهاكًا صارخا لحرمة الضحايا ومشاعر ذويهم.

وإلى جانب ذلك، تُعد هذه الممارسات تهديدًا مباشرا للصحة النفسية للمتلقي، وتصب أحيانا في مصلحة المجرمين والإرهابيين، خاصة إذا كانت الجريمة ذات طابع إرهابي، حيث تسهّل عليهم إيصال رسائلهم الترهيبية.

قد تقع كارثة، ويُسفك الدم، وتُشن الحروب، ويمرض الناس، ويموتون على أسرتهم، محاطين بعائلاتهم وسط الدعاء والدموع. فإن نشر صورهم في هذه اللحظات المؤلمة دون مراعاة، يعد انتهاكا لخصوصيتهم، كما يشكل استخفافا بمشاعرهم وكرامتهم، وفي نفس الوقت إهانة للمتلقي الذي يُجبر على مشاهدة مآس من دون تنويه واذن مسبقين.

لنأخذ الموظف في كوردستان الذي يترقب بصبر إطلاق مستحقاته المتأخرة، باحثا عن بصيص أمل في الأخبار، يجد نفسه مرارا أمام خبر مستفز وبأسلوب متكرر مفاده أن مصير مرتبه بات تحت رحمة علم الغيب، دون مراعاة لحالته النفسية أو ظروفه الصحية، وقد كتب بلغة لا تحترم حتى أبجديات المهنة، وهذا بالطبع ينم عقلية تسويقية مقيتة تسعى فقط لرفع سقف عدد المشاهدات دون أي اكتراث للعواقب.

إن هذه الظاهرة لن نبالغ إن قلنا بأنها عبث إعلامي بامتياز، فكيف لا ونحن نرى تسابق المؤسسات الإعلامية على الذود باللقطات الأولى لنقل مشاهد الدماء والجثث ونواح أقارب الضحايا بأسلوب درامي، من خلال التركيز على تغطية تهدف إلى الشحن العاطفي واثارة حال من القلق، لذا فإن مثل هذه الممارسات، سواء كانت تنم عن جهل أو قصد، تؤدي بالضرورة إلى خلق ارباك من شأنه أن يبعد الإعلام عن الاضطلاع بدوره الحقيقي، وتجرده من مضامينه الحقيقية، وتحوّله أحيانًا إلى أداة رخيصة في يد جهات سياسية أو أيديولوجية.

ما يؤسف له، هو أن العديد من المؤسسات الإعلامية في كردستان لا تعير أهمية لخطورة هذه الظاهرة، التي لا تتنافى فقط مع أخلاقيات المهنة، بل تشكل ضربة على مصداقية الإعلام. ولو عدنا إلى بدايات نشوء الإعلام المعاصر، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر، سنجد أن العديد من وسائل الإعلام العالمية ارتكبت أخطاءً فادحة، بدءًا من تضخيم قدرات المهاجمين، إلى فتح المجال للجماعات المحظورة لنشر رسائلهم عبر تغطيات غير مسؤولة.

ولعل من شاهد تلك الأحداث يتذكر كيف سعت القنوات “المهيمنة” حينها إلى الوصول إلى الجانب الآخر من الحرب، وبات بعض الإعلام يتصرف كأنه ناطق رسمي باسم تلك الجماعات. ورغم أهمية عرض وجهات نظر متعددة، إلا أن هذه التغطيات غالبا ما تجاوزت الحياد، وأظهرت المؤسسات الإعلامية وكأنها منحازة لطرف دون آخر.

ومع التطور في المجال التقني، تفاقمت الظاهرة خلال الغزو الأميركي للعراق ومن ثم اسقاط نظام حزب البعث، ولاحقا خلال الثورات التي عُرفت فيما بعد بالربيع العربي، ومن ثم الحرب ضد داعش، وأخيرا انفجار الصراع بين إسرائيل وحماس، وهذا رسخ بدوره الفكرة الثابتة، وهي كيف أن الاعلام يشكل أداة فعّالة في توجيه الرأي العام باتجاهين متضادين، وهما الحقيقة والتضليل على حد سواء.

نحن أمام واقع لا يقبل التأويل في ما آل إليه واقع الاعلام من تغطية لا تلتزم بأدنى معايير تراعي مشاعر المتلقي وسلامته النفسية، وكيف أوصل به الحال إلى أن يقاطع المتلقي في أحيان كثيرة حتى الاستماع للأخبار تجنبا من التصادف مع المشاهد الدموية والاخبار المربكة ذي الطابع الصادم.

وهنا لا بد من الاستناد على الجانب العلمي في المضاعفات التي تخلفها الظاهرة، بناء على دراسات طبية معتمدة تفيد كيف تؤثر الأخبار السلبية المخالفة للمعايير على الصحة النفسية والبدنية، بدءا من ارتفاع في مستويات هرموني الأدرينالين والكورتيزول، المتعلقين بالتوتر، وما يؤدي إلى زيادة في نبضات القلب، وارتفاع في ضغط الدم، والسكر في الدم، وما تخلفه من تبعات على صحة الانسان.

وعلى الرغم من ظهور مؤسسات إعلامية رصينة ومهنية، إلا أن غالبيتها باتت تنافس في اللعب على وتر السبق لشد الانتباه عبر التركيز على المشاهد والاخبار المثيرة والمفجعة، دون أية اعتبارات للجانب الأخلاقي والإنسان، وما يزيد الشأن خطورة عندما تتحول وسائل الإعلام إلى أدوات في الصراعات السياسية، ذلك أن المؤسسات تعمل وفق جهات داعمة وتتولى بالنيابة صناع القرار في مهاجمة الخصوم، وهذا الحال بدوره يضع المتلقي أمام خطاب موجّه في خدمة مصالح ضيقة، ويجعل منه ساحة لمعركة حزبية.

ختاما لا بد من اتخاذ خطوات جادة في إيجاد السبل الكفيلة بوضع حد لهذه الظاهرة، من خلال انتهاج ضوابط تنسجم مع قوانين حرية التعبير، والالتزام بميثاق شرف إعلامي يحترم الكرامة الإنسانية تلزم مثلا تجنب التغطية المباشرة لحالة ذوي الضحايا في لحظات الانهيار النفسي، أو الترويج لخبر عن ارتكاب فعل من قبل فرد قد يسيء إلى شريحة أو شعب بأكمله، وهذا الخطأ قد لا يُسيء فقط إلى الجمهور المحلي، بل قد يفتح بابًا إلى مشكلات سياسية واجتماعية تمتد إلى ما وراء الحدود الوطنية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر الأخبار