
اليهود…الحلقة المفقودة من ذاكرة الناصرية
علاء كولي
حتى مطلع السبعينيات من القرن الماضي، كان أبناء الطائفة اليهودية يتواجدون في عدة أماكن من محافظة ذي قار، حيث أثارهم ومنازلهم شاخصة، لم تشهد أي تخريب مثلما شهدته بغداد منذ الفرهود الأول في الاربعيينات والتهجير الثاني في الستينيات وما حصل لهم.
يشكل يهود محافظة ذي قار إرثا إنسانيا وثقافيا لا تزال اثاره حتى الان في ذاكرة الأجيال التي زامنت وجودهم في تلك الفترة، قبل أن تتسع الكراهية ضد هذه الجماعة البشرية التي عاشت بسلام، ولا يذكر أنها تدخلت في الشؤون السياسية بقدر إهتمامها بحياتها الخاصة ونشاطها الكبير في الجانب الاقتصادي وتأثيرهم في السوق.
يحكي الكثير ممن عاش في الفترة التي تواجد فيها الكثير من اليهود في محافظة ذي قار، كيف كان التعايش في المحافظة التي لم تقتصر على اليهود فقط، بل تواجد في عدد من أماكنها الصابئة المندائيين وعدد من العوائل المسيحية، كانت الحياة اليومية في الأسواق هي من جذبت أبناء الديانات الأخرى لهذه المدينة بحكم موقعها الجغرافي وكونها بيئة زاخرة بالزراعة والتجارة.
ومن حكايات اليهود أن الكثير من المسلمين إعتادوا الذهاب لجدران أحد المنازل أو المعابد التي يتبارك بها اليهود، من أجل لمسه والتبرك به أو إستخدامه للدواء، حيث يعتقد الكثير من الناس البسطاء أن جدران معابد اليهود يمكنها أن تشفي بعض الأطفال المرضى ببعض الأمراض التي تصيبهم.
لاحقا حينما برزت تيارات سياسية بصبغة دينية، وإرتفاع منسوب الكراهية ضد هذه الطائفة، إنسحب الجميع، من المدينة التي عاشوا فيها طويلا، حتى العام 1973 بحسب ما يروي الكثير من السكان والأصدقاء المرافقين لأبناء اليهود ممن غادر المحاظفة وذهب بعضهم الى فرنسا وبريطانيا وبعضهم الى إسرائيل.
يحتفظ السكان هنا كثيرا بذكرياتهم مع اليهود، وأماكنهم وحكاياتهم اللطيفة ومواقفهم، وكيف كانوا يتعاملون مع الناس في الأسواق، يتذكرون كيف كانوا أذكياء في التعامل مع الأزمات الإقتصادية وكيف أبدعوا في التجارة والأقمشة وغيرها من الأعمال الأخرى.
ما بقية من أثارهم حتى اليوم، بعض البيوتات المعروفة بطريقة بنائها القديم المنفرد ببعض التفاصيل والزخارف التي تطرز واجهة المنزل، لكن تلك المنازل إندثرت بعد أعوام من خلوها من الساكنين فيها، بعدها صادرتها الحكومة وبقية مهملة حتى سقوط نظام صدام، وبعضا منها تم هدمه وبناء منازل حديثة والبعض الأخر تحول الى خربة ممتلئة بالأنقاض.
تداخلت العوائل اليهودية بحسب ما يرويها سكان عدد من المحافظة مع العوائل المسلمة الأخرى، وكانت العلاقة الإجتماعية قائمة، ولا توجد تفاصيل كثيرة تتعلق بعدد العوائل التي وصلت الى الناصرية، لكن أماكن إنتشارها كان في الشطرة وقلعة سكر والناصرية وسوق الشيوخ، ثم لاحقا إنتقل الصابئة على شكل جماعات كبيرة الى جنوب الناصرية قرب الفرات.
يعتقد باحثون ومختصون في الشأن التاريخي بأن اليهود كانوا يمثلون حلقة مفقودة من ذاكرة الناصرية التي كانت محفلا للأديان والطوائف دون تمييز، ولم تجري دراسات أو أبحاث كبيرة تتعلق بوجود اليهود وحجم تأثيرهم وأماكن تواجدهم في الناصرية، وما كتب عنها سوى الشيء البسيط جدا.
بعد مرور سنوات طويلة من الذاكرة وماحصل من أحداث بحق اليهود أيام الفرهود والتهجير، والضخ الإعلامي العالمي تجاه يهود العراق، تحول المزاج الشعبي لاحقا بفعل التأثيرات الدينية والسياسية الى أن يتم شيطنة وجودهم ونبذهم في الخطابات المتطرفة التي كانت واحدة من أخطر ما شهده اليهود وحلمهم في العودة لأرض الأجداد.