
الانساق الثقافية في خطاب المرجعية، خطاب “مريم الصديقة الطاهرة برؤية قرآنية” للمرجع محمد اليعقوبي أنموذجاً
كتب / د. حيدر لطيف الوائلي
يعيش المجتمع العراقي ارهاصات وتحديات متعددة ومتنوعة تبدأ بفساد الساسة وتنتهي بجائحة كورونا وما بينهما من انعكاسات سوء خدمات وتفشي الفقر والحرمان وضياع للحقوق، في ظل هذه الارهاصات والظروف يطل علينا خطاب المرجعية “مريم الصديقة الطاهرة برؤية قرآنية” وهو ضمن سلسلة من خطابات المرحلة التي تأتي دائماً لمعالجة المشاكل برؤية قرآنية روائية.
وسأحاول أن اقدم قراءة لهذا الخطاب على وفق ما يعرف بالانساق الثقافية، اذ تبحث هذه النظرية عن المضمر الذي لم يصرح به النص فهو رسالة متضمنة ضمن الخطاب الظاهر.
يعتمد المنهج المقترح على مرتكزين يتظافرن فيما بينهن، المرتكز الاولى ما يعرف بالهامش والمركز وهنا الخطاب ركز على “مريم المقدسة” الشخصية الطاهرة التي اجحف الانجيل حقها فالخطاب هنا يحاول اعادة ترتيب مقام المرأة من خلال ضبط ترتيب مقام مريم الطاهرة المقدسة “عليها السلام” وهنا يعتمد الخطاب على التقصي والتحليل للقرآن الكريم فمريم المرأة الوحيدة التي ذكرت في القرآن باسمها الصريح وهذا تكريم ايما تكريم وقد ذكرها القران٣٤ مرة كما ان لها سورة مخصصة باسمها وان التحليل والتدقيق في آيات القران يجعل مريم حسب القرآن الكريم (صديقة) و (آية) وحث القرآن عليها واوصلها الى رتبة الاقتداء بها وبسيرتها.
والنسق الثقافي المضمر هو تكريم وتعظيم مقام مريم “عليها السلام” ورفعها للمركزية في قبال الانجيل الذي حط من كرامتها وجعلها هامش والخطاب يحمل رسالة عالمية للعالم اجمع بأن القرآن هو من يحافظ على مكانة المرأة، وان المسلمين هم من يحافظوا على مكانة المرأة وتكريمها حق التكريم وهذه رسالة للشباب نساءً ورجالاً ان لا يغتروا بالشعارات التي يرفعها الغرب ويريد من خلالها ان يدعوا للتحلل الاخلاقي ويريد ان يجعل من نفسه قيماً على نساء الاسلام، فإن كان الغرب لا يحترم والدة السيد المسيح فكيف يمكن له ان يحترم ويحفظ حقوق عوام النساء والمرتكز الثاني النسق المضمر او الرسالة المضمرة في الظاهر.
٢- يعتمد الخطاب على رواية للأمام الجواد “عليه السلام” كأداة معيارية او منهجية لتحليل شخصية السيدة مريم “عليها السلام” والرواية هي (المؤمن يحتاج الى توفيق من الله ، وواعظ من نفسه، وقبول ممن ينصحه)، كشف الخطاب عن مقام السبدة مريم المقدسة على وفق المعايير التي حددتها رواية الامام الجواد “عليه السلام” وسأعمل على تفكيك المعايير في الرواية، لكن قبل الدخول في عملية تفكيك المعايير ودراستها يمكن للمتلقي ان يستشف نسقاً مضمراً عاماً في هذه الرواية، اذ تظهر المقام المعرفي والعلمي العالي للأمام الجواد “عليه السلام”، فقد اعطى الامة قبس من جوده وكرمه وبين للامة من خلال هذه الجرعة المعرفية مضامين عالية تلخص احتياج الانسان الحقيقي فالإنسان سائر للحق وهذا السير بحاجة لزاد عبر عنه القرآن الكريم (وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) وهذا الاجمال في التزود يبين الامام تفصيلاً يتعلق به او الطريقة العملية او احدى الطرق العملية في التزود.
وسأعمل على تفكيك مفردات معايير الرواية:
١- المؤمن يحتاج الى توفيق من الله:
وهذا التوفيق من الله يتعلق بالإنسان، اذ عليه ان يكون محلاً لتوفيق الله تبارك وتعالى، فالله تبارك وتعالى لا بخل بساحة وكل ما على الانسان ان يحقق في ذاته الاستحقاق او المحل لنزول التوفيق فعليه ان يسعى لتنقية القلب وتطهيره والتضرع والدعاء لله تبارك وتعالى والتوسل بالمعصوم “عليه السلام” لأجل تحقيق طلبه من توفيق الله تبارك وتعالى ومن وسائل التوفيق وطلبه قضاء حوائج الاخوان فقد ورد “من أتاه أخوه المؤمن في حاجة فإنما هي رحمة من الله عز وجل ساقها إليه” وبر الوالدين وغيرها من موارد تحصيل توفيق الله تبارك وتعالى.
والنسق الثقافي المضمر في هذه المفردة من الرواية الشريفة: ان الانسان دون توفيق الله ودون تحقيق التقوى في ذاته انما يكون بعيداً عن النجاة فهي رسالة للإنسان ان لا تشرق ولا تغرب فالحلول بيد الله تبارك وتعالى دائما وابدا ولا تغتر بمنصب او مال او جاه فكل هذه ما لم تكن ضمن حدود التقوى لن تنفعك وعلى الانسان ان يبتعد عن ما يسبب مقت الله وعدم توفيق الله من سلوكيات فيعرض عن كل ما يتسبب بالابتعاد عن توفيق الله تبارك وتعالى كالتسقيط والتشويه والانجرار وراء الشائعات والابتعاد عن القيادة الدينية الحقة المنجية للإنسان ولعل ابرز مصاديق الابتعاد عن القيادة هو الابتعاد عن منهج ال البيت “عليهم السلام” فكراً وسلوكاً فهو يسلب التوفيق (ومن اعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا).
٢- المؤمن يحتاج “وواعظ من نفسه”
على الانسان أن يرجع لفطرته وقلبه القرآني النبي الداخلي للإنسان، اذ عليه ان يستفتيه بعد ان يحقق التقوى ويكون مستحقاً لتوفيق الله تبارك وتعالى، فعند الازمات واشتدادها او عندما يريد الاقدام على الافعال ان يستفتي قلبه ليرى ان هذا الفعل هل يصب في نفعه الآخروي وهل يصب في رضا الله تبارك وتعالى، فيقول المرجع دام ظله في خطابه “الوازع الداخلي والارادة الجدية لفعل الخير وسلوك طريق الاصلاح والعزم الراسخ على الالتزام به مهما تعاظمت الضغوط النفسية والاجتماعية ومهما تزينت الاغراءات” فالظروف المحيطة بالأفعال والبراقع التي تتغلف بها الاغراءات كلها بوساطة الفطرة الانسانية والقلب القرآني بالإمكان ان تنفضح حقائقها بتوفيق الله تبارك وتعالى.
والنسق الثقافي المضمر:
انه على الانسان المؤمن ان يتجنب ما يفسد باطنه وفطرته وقلبه القرآني ويسعى لتزكية نفسه بالتزام الدين والابتعاد عن اصدقاء السوء والابتعاد عن اهل الغفلة والابتعاد عن الباطل وهجر التصرفات والذنوب التي تسود القلب وتجعله عاجزاً وقد ورد ان كل البلاءات التي تصيب الانسان مرجعها للذنوب وان مجرد هجر الذنوب والتوبة والاستغفار تدفع البلاء فالبلاء من الله تبارك وتعالى جيء به لغايات تكوينية متى ما استطاع الانسان ان يبتعد عن اسباب جلب البلاء من الذنوب فان البلاء يدفع او يخفف.
٣- المؤمن يحتاج “قبول ممن ينصحه”
ان للناصح دوراً مهماً ومحورياً في حياة الانسان المؤمن فقد ورد “رحم الله من اهدى الي عيوبي” وورد “ان المؤمن مرآة المؤمن” ولابد للناصح ان يمتلك بعداً معرفياً عالياً وبعداً اخلاقياً معتد به ولابد من وجود القبول وتحققه فالناصح متفضل على الانسان طالب النصح ومن ينصح المؤمن يقدم له خدمة.
النسق الثقافي: على الشباب ان يجعلوا لهم ناصحاً يتقبلون منه وهذا الناصح لابد ان يكون بمواصفات خاصة، اذ لابد ان يكون الناصح عارفاً خلوقاً والكثير من الشباب ربما لم يفكروا في جعل أحد المؤمنين ناصحاً لهم يأخذون منه الارشاد والنصح في زمن نعيش فيه الانفتاح الثقافي وسرعة التواصل الاجتماعي وتكالب الاعداء، اذ لا يستطيع الانسان ان يميز الكثير من الموارد والفتن دون ان يكون له ناصحاً يعتمد عليه وعليه ان يطلب من الله تبارك وتعالى ان يوفقه للقبول من الناصح المؤمن فهناك قضايا واحداث كثيرة لم يسع الشباب ان يتعرفوا عليها وعندما ترى شخص او اشخاص تعتمد على ناصح ليس بالمستوى المطلوب او لا تعتمد على ناصح او تستهزأ بالناصح فاعلم ان هذه الجماعة لا تنفعك بل تضرك من حيث لا تشعر واليوم نحن كشيعة نمتلك المرجعية الدينية، اذ تعد الناصح الافضل للإنسان وعليه ان يطبق تعاليم المرجعية وتوجيهاتها بدقة دون نقص وتحوير.
حمل الخطاب “موقف مريم من الابتلاء”
اذ استشعرت مريم المقدسة “سلام الله عليها” عظمة الابتلاء لأن قومها سوف يتهمونها في أعز شيء عندها، شرفها و عفافها وطهارتها، فضلاً عن صعوبة الحمل والولادة، حيث كانت وحيدة في مكان نائي ليس فيه ماء ولا طعام ولا حضور لقابلة او نسوة معها فهل تركها الله تبارك وتعالى في هذه الظروف؟
حاشا لله تبارك وتعالى ان يتركها او يترك المؤمن بصورة عامة بل هيء لها اسباب اجتياز البلاء بنجاح فوهب لها الطعام والشراب وانطق مولودها (فكلي واشربي وقري عينا)
فالنسق المضمر في هذا الابتلاء:
انه على الانسان ان يتوكل على الله تبارك وتعالى مادام محققاً في داخله التقوى والالتزام فالبلاءات تنتهي والمؤمن يستطيع ان يدفعها ويقلل اثرها بتوفيق الله تبارك وتعالى وبنصره وعليه ان لا ينهزم فالمعنويات كل المعركة والبلاءات تسهم في تكامل الانسان ودائماً يأتي الفرج بعد كل البلاءات بل هناك رفقة بين العسر واليسر ففي داخل كل بلاء فرج (ان مع العسر يسرا) و(سيجعل الله بعد عسر يسرا).
فما على الانسان الا ان يؤدي تكليفه.
وفي الختام:
الخطاب يؤشر طريقة لدفع البلاءات وهي تحقيق التقوى والتوسل بالأولياء والصالحين، فما مريم الا أنموذجاً مصغراً عن الزهراء “عليها السلام” فلنتوسل بهما لدفع البلاء بحقهما ومقامهما عند الله تبارك وتعالى، اذ التوسل قيد المعرفة والخطاب بين مقام مريم “عليها السلام” فالتوسل متاح للطالبين المحتاجين للفرج، وقد سبق هذا الخطاب من المرجعية خطاب “امن يجيب المضطر اذا دعاه ويكشف السوء” والذي يعد من طرائق دفع البلاء ايضاً من خلال تحقيق حالة الاضطرار الذاتي داخل الانسان المؤمن، فهذا الخطاب الذي حللناه يقع ضمن سلسلة دفع البلاء ايضاً
والله اسأل بحق الزهراء فاطمة “عليها السلام” والمقدسة مريم “سلام الله عليها” ان يفرج عنا فرجاً عاجلاً وقريباً.
والحمد لله رب العالمين