
فيلم هوليوودي يحكي قصة خاشقجي بعنوان “المشنق”
جريدة الناصرية الالكترونية:
رغم البرد القارس وأكوام الثلوج المتراكمة على الطرق، يتدفق كل بداية عام مئات الآلاف من صناع السينما وعشاقها إلى مهرجان “صندانس” للأفلام المستقلة في مدينة “بارك سيتي” ليتذوقوا إبداعات سينمائية تتميز بالتجريب والمجازفة والتمرد على الأنماط السائدة، التي تتبعها عادة أفلام هوليوود.
فخلافاً لهوليوود، على سبيل المثال، “صندانس” ساهم في تطوير مواهب عربية وطرح العديد من أفلامهم الروائية والوثائقية، التي ذهبت بعضها للترشح للأوسكار، مثل فيلم المصرية جيهان نجيب “الميدان” الذي رشح للأوسكار عام 2014، والفيلمين السوريين “آخر الرجال في حلب” و “آباء وأبناء” اللذان رشحا للأوسكار في عامي 2018 و 2019 على التوالي.
ما يلفت النظر هو أن “صندانس” يميل إلى أفلام عربية تعالج الواقع العربي السياسي والاجتماعي، وتحديداً في الدول التي تمر بصراعات سياسية، لهذا عرضت الكثير من الأفلام التي تناولت ثورات الربيع العربي في مصر وسوريا والعراق واليمن.
لكن هذا العام يسلط المهرجان الضوء للمرة الأولى على الواقع السعودي والتطورات الأخيرة، التي طغت على عناوين الصحف العالمية مثل مقتل الصحافي والناشط السياسي “جمال خاشقجي”، في القنصلية السعودية في اسطنبول، تلك القضية تناولها الفيلم الوثائقي “المنشق” للمخرج بريان فوغل، الذي فاز بأوسكار أفضل فيلم وثائقي العام الماضي عن فيلم “آيكاروس”.
“المنشق” يغوص عميقاً في أحداث ما وراء عناوين الأخبار ويطرح كفيلم تشويق هوليوودي مرعب.
بداية يقدم الفيلم ناشطاً سياسياً سعودياً في أواخر العشرينات من العمر، عمر عبد العزيز، الذي يعيش في المنفى في كندا في رعب دائم، بسبب التهديدات، التي تنهال على تلفونه الجوال يومياً، ومن خلال تجربة عمر يكشف لنا الفيلم عن الواقع، الذي كان يعيشه “خاشقجي”، الذي كان المرشد لعبد العزيز و غيره من الناشطين السعوديين، الذين يعيشون في المنفى، ويستخدمون منصة التواصل الاجتماعي “تويتر” لتوصيل رسالتهم لأبناء شعبهم في السعودية.
في الأعوام الأخيرة وصلت نسبة استخدام موقع التواصل الاجتماعي في السعودية إلى 80%، لهذا قامت السلطات هناك بمشروع ضخم جندت فيه كوادر ضخمة من التقنيين لمراقبة مستخدمي “توتير” السعوديين في كل أنحاء العالم والترويج للحكومة من خلال حسابات وهمية، كما تصدت للناشطين من خلال استخدام برنامج تجسس اسرائيلي وهو “بيغاسوس” لملاحقتهم في كل مكان، من خلال اختراق حواسيبهم وتليفوناتهم المحمولة.
وعندما نجحوا في التسلل لتليفون عبد العزيز، تمكنوا من الوصول إلى “خاشقجي” ومعرفة ما كان يخطط له من نشاطات ضدها.
“خاشقجي” الذي كان مقرباً من العائلة المالكة، رحب بداية بإصلاحات ولي العهد محمد بن سلمان، لكنه انتقد بشدة خنق الحريات ومنع تعددية الآراء، فتلقى أوامر من السلطة للتوقف عن كتاباته، فرفض وترك السعودية وعاش في المنفى، حيث انضم إلى الناشطين السياسيين السعوديين ودعمهم في فعالياتهم، مما أثار قلق الحكومة السعودية، لأنه يعرف النظام عن قرب، فقررت اسكاته.
في تركيا، التقى “خاشقجي” بصحافية تركية هي خديجة وقررا أن يتزوجها لكن كان عليه أن يرتب أوراق الطلاق من زوجته في السعودية في القنصلية السعودية، وعندما ذهب إلى هناك، استقبلوه ورحبوا به وطلبوا منه أن يعود بعد خمسة أيام.
لكن عندما عاد، قادوه إلى مكتب القنصل، الذي كان ينتظره، وبعد حديث قصير بينهما، خرج القنصل ودخل فريق تصفية أمني وصل على التو من السعودية، وبدأوا بالتحقيق معه وشتمه، ثم طلبوا منه أن يرافقهم إلى السعودية، لكنه رفض. فخنقوه حتى أغمي عليه، ثم خلعوا ملابسه وبتروا أعضاء جسده بمنشار كهربائي.
كل تلك التفاصيل حصل عليها مخرج الفيلم من السلطات التركية، التي أعطته النسخة المكتوبة للتسجيل الصوتي للأحداث.
خبراء تجسس قاموا بفحص جوال عبد العزيز، واكتشفوا أنه أُخترق من قبل برنامج التجسس الإسرائيلي، الذي تستخدمه السلطات السعودية للتجسس على كل أعدائها، إن كانوا سعوديين أو أجانب، من ضمنهم أغنى رجل في العالم “جيف بيزوس” رئيس شركة أمازون الذي أراد محمد بن سلمان معاقبته، لأنه استدار ضده بعد اغتيال “خاشقجي”.
مقتل “خاشقجي” أثار الرعب في قلوب الناشطين السعوديين في المنفى و لاسيما أنه لم يضر بالحكومة السعودية، فرغم الأدلة القاطعة التي قدمتها سلطات الأمن التركية والمخابرات الأمريكية عن تورط الحكومة السعودية في العملية، إلا أنها لم تُقاطع من أي حكومات غربية، وتحديداً الحكومة الأمريكية، برئاسة دونالد ترامب.
عبد العزيز أيضاً عرض عليه الرجوع إلى السعودية، لكنه رفض خوفاً من اعتقاله هناك، فقامت الحكومة بسجن زملائه وأخيه، الذي لقي حتفه تحت التعذيب.
منافسة ترامب في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، هيلاري كلينتون، حضرت عرض الفيلم، وفي حفل لاحقاً، التقيت بها وسألتها عن رأيها، فقالت إن الفيلم كان مؤثراً جداً، لكنها رفضت أن تعلق على رد الفعل الذي كان يمكن أن تتخذه في مثل هذا الوضع لو كانت الرئيسة.
هروب الفتيات من السعودية
فيلم وثائقي آخر، ليس أقل تشويقاً من الأول تناول ظاهرة آلاف الفتيات، اللواتي هربن من السعودية في الأعوام الأخيرة وهو “سعودية هاربة”، الذي يلاحق فتاة سعودية في الخامسة والعشرين من العمر، تدعى منى، تخطط للهرب من السعودية.
وبما أنه لا يمكن للنساء السفر خارج السعودية بدون مرافق ذكر، توافق منى على الزواج من شاب لا ترغبه لكي تسافر معه إلى أبو ظبي في شهر عسل وتهرب من هناك.
منى قامت بتصوير كل مشاهد الفيلم سراً بهاتف المحمول تحت إرشاد مخرجة الفيلم السويسرية، كريستيان فري، منذ أن قررت الفرار، حيث نشاهدها تعيش مع أخيها الصغير وأمها ووالدها، الذي يتحكم في كل أمور حياتهم ولا يسمح لهم بالخروج من البيت، بدون موافقته، لهذا كانت تشعر أنها سجينة في بيتها وتحلم بالحرية، التي حرمها منها والدها أو المجتمع الرجولي.
بلا شك أن الفيلم يتسم بقيم فنية راقية جداً ولا استغرب إذا نال الأوسكار العام المقبل.
لكنه يعاني من تنميط الرجل السعودي، الذي دائما يحمل مسؤولية ظلم النساء في الأفلام الغربية، متغاضية حقيقة عن أن الشباب في السعودية أيضاً يعانون من قيود العادات والتقاليد، التي يفرضها عليهم مجتعمهم المحافظ. ذلك المجتمع ليس مكوناً من رجال وحسب، بل أيضاً من النساء، اللاتي يكن أحياناً أكثر صرامة من الرجال في خنق حريات النساء.
في الفيلم تقر منى أن ولي العهد، محمد بن سلمان، يحاول أن يوسع من حريات النساء ويفتح لهن أبواباً مغلقة أمامهن، لكنه يواجه تحديات من مجتمع محافظ جداً، يعتبر الانفتاح انحلالاً أخلاقياً، وفي مشهد آخر يشتكي شاب سعودي من حرمان الشباب من التواصل مع شابات مثل غيرهم من البشر خارج بلدهم، ويقول إن أكثر من 50%، من الشباب يعانون من هذا الخنق.
من جهة أخرى، المخرجة السعودية هيفاء المنصور، التي حضرت المهرجان مع فيلمها، المرشحة المثالية وتشارك في لجنة التحكيم، قالت في ندوة بعد عرض فيلمها إن الطريق إلى التغيير وتحقيق الحريات في السعودية يأتي من الداخل وليس من الخارج، مؤمنة أن الفن يمكنه أن يغير أفكار الناس ونظرتهم تجاه الآخر وتجاه النساء.
من المفارقات أن كلا من “خاشقجي” و “منى” رحب بالإصلاحات، التي يقوم بها ولي العهد السعودي، ومع ذلك شعر كل منهما أن ما فعله ليس كافياً ولم يتحملا حياة الخنق الاجتماعي والسياسي.
لكن من جهة تعترف “منى” أن ولي العهد لا يمكنه أن يبالغ بالتغييرات في مجمتع محافظ، أما “خاشقجي” فقد صرح أن شدة العداء، الذي كان يواجهه من السعوديين لم تكن أقل من عداء حكومتهم، لكن في خارج السعودية وهنا في المهرجان يضعون كل اللوم على الحكومة ويؤكدون أن كل الشعب السعودي ضدها، متغاضين تماماً عن طرح المنصور، المؤيد إلى حد ما لسير إصلاحات ولي العهد.
المثليون في السعودية
وفي خضم هذه الأفلام الوثائقية، طرح المخرج والكاتب الأمريكي، آلان بول، في فيلمه، “العم فرانك”، قصة حب بين شابين مثليين، أمريكي يدعى فرانك وسعودي يدعى والي، في سبعينيات القرن الماضي، حيث يواجه كل منهما رفض وعداء مجتمعه له. فبينما يشكو والي أن مثليين مثله يعدمون في بلده، فرانك يحرمه والده من إرثه ويعتبره لعنة وعاراً لعائلته.
رغم إنه موضوع الفيلم، إلا أنه مرح جداً، ومصدر ذلك المرح شخصية والي، الذي يجسده الممثل اللبناني بيتر مقدسي، لهذا بغض النظر عن نوع الشخصية، إلا أن الفيلم يحمل رسالة مبطنة وهي أن الإنسان العربي لا يختلف عن الأمريكي وأنه يواجه التحديات الاجتماعية نفسها، التي يواجهها الإنسان الأمريكي. كما أنه يلفت نظر المشاهد الأمريكي إلا أن مجتمعه أيضا محافظ وعدائي تجاه من يخالف معتقداته مثل المجتمع السعودي.
تلك الأفلام كانت محور الحديث والنقاشات في كل حفلات ومناسبات المهرجان. فبينما طالبت الأغلبية من رواد المهرجان بمقاطعة السعودية ومشاريعها الفنية، هناك قلة تعتقد أن من الحكمة العمل مع الفنانين السعوديين ودعمهم في تطوير الفن هناك لكي يتمكنوا من طرح نظرتهم التقدمية لمجتمعهم.