
الساحل المندائي في ذي قار
مصطفى عادل السعيدي
حين تروم التجوال، صباحاً أو مساءاً على ضفة نهر الفرات الممتدة بين ناحية العكيكة وقضاء سوق الشيوخ، جنوبي ذي قار، ستمر بلا شك على مضارب محلة سومرية قديمة، تفوح منها رائحة العبق الحضاري لهذه المدينة التي ولدت بين أحضان الرافدين، لتمتد بها الحياة الى اليوم، ولتشكل علامة فارقة هنا.
أنها محلة الصابئة، التي يعرفها الجميع، وهي بيوت ومندي (بيت العبادة) أقدم ديانة أستوطنت هنا في الناصرية، واستلقت آمنة مطمئنة على ذراع أبيها واهب الحياة وغاسل الذنوب ومطهر الأنفس، نهر الفرات، كما جاء في المعتقدات والطقوس الدينية للصابئة المندائيين، في جنوب العراق، وهي تناغم موجات الفرات ببياض ملابسهم الناصعة ووجوههم البريئة العاشقة للأرض والأنسان.
ولا يزال أتباع النبي يحيى وأصحاب الكنز العظيم، وأهل أول ديانة موحدة، يزرعون بساتين الحياة وروداً تحتفل في ربيع عرسها الازلي تحت شمس العراق، حيث يعيش المندائيون بسلام، برغم الظروف العصيبة التي مرت على العراق، ظلوا محافظين على وجودهم وتماسكهم الاول والاخير بالهوية العراقية التي كانت تمثل وجودهم.
وبحسب ما تذكره، الكتب القديمة والتاريخ، فأن الموطن الأصلي للصابئة في العراق، هو في جنوب العراق، وبالتحديد في المناطق التي تقع ما بين محافظة ذي قار في سوق الشيوخ وبين محافظة ميسان، “مملكة ميشان”، بحسب ما تذكره الرقم الطينية، وما يحفظه أهل هذه الديانة السماوية انذاك وكيف أنهم عاشوا فيها، منذ الأزل وكانوا جزءا من جسد هذا التاريخ.
وأختلط المندائيون في الحياة الاعتيادية للسكان في الناصرية، وصاروا جزءا منها، حيث نتذكر جيدا، كيف كان معلم الصف الأول الابتدائي، في قضاء سوق الشيوخ، الأستاذ شاكر يوار وفي الصف الثاني استاذ ابراهيم وكلاهما مندائي، كان صوت استاذ شاكر وهو يعلم تلاميذه تهجي القراءة الخلدونية مطلع السبعينيات من القرن الماضي صادحا يسمعه كل من يمر بالشارع وأصحاب المحلات القريبة من مدرسة العكيكة الابتدائية.
وحتى الطريق الذي يمتد من ناحية العكيكة حتى محلة الصابئة تكلله روائح الجوري والصفصاف التي تمتد على الشط ، واغلب كبارهم كان يمتهن صناعة واصلاح السفن وأشرهم العم فياض الصبي كما كان يسمى، ويمتهن اغلب الشباب صنعة صياغة الذهب ولايزال سوقهم عامرا حتى اليوم المسمى سوق الصبة او سوق الذهب ولايزال أبرز الصياغ واشهرهم يعملون رغم هجرة البعض منهم ومعظم نساء القضاء ونواحيه خاصة العرائس تفضل صياغة الصابئة على غيرهم كونهم أصحاب مهنة قديمة توارثوها أبا عن جد.
ولا يزال الصابئة، يمارسون طقوسهم الدينية، في المناسبات والأعياد الخاصة، بهم، ولم تقتصر اقامة هذه الطقوس على ابناء الطائفة فقط، حيث يشاركهم بتلك المناسبات الدينية والاجتماعية الكثير من المواطنين في محافظة ذي قار، وعلى مدى سنوات طويلة، ويتبادلون التهاني فيما بينهم، في حالة تعكس روح التسامح والسلام في محافظة ذي قار، فيما بين الطوائف التي تنتمي أولا وأخيرا الى العراق، الهوية الأولى والاخيرة للجميع.