سرد إدانة الحرب

صبري الحيدري قاص متميزٌ ـ كما أزعم ـ وهذه مجموعته القصصية الأولى، ويستطيع القارئ أن يتمثل أجواء الحروب، ومجموعة من الشخصيات المقهورة والمشوهة تملأ هذه الأجواء وتبث فيها الحياة.

تبدأ المجموعة بقصة (مقامات الطيرواني) وهي تصور مجموعة من المعاقين والعواقر يهربون من (المدينة الرمادية) في موكب بحثاً عن (طائر الفلاة) الذي سيشفيهم، استطاع القاص أن يوظف الموروث الميثيولوجي في هذه القصة «حسناً .. خلف مقبرة الجيش مدينة بلا حروب اسمها مدينة السعادة أنا ذاهب لها …» وترك القاص هذه القصة غفلاً من الإطار التاريخي والجغرافي مما ولد فيها دلالة متسعة الأرجاء.

ولكن في القصة بعض التعليقات الزائدة التي يمكن حذفها من دون أن تتأثر القصة، وفيها أيضاً بعض الأوصاف المستهلكة، ولا تخلو القصة من بعض التوصيفات الجديدة «ولم يكن الشاب السائر إلى جنبي سوى علبة دخان فارغة يطوحها الهواء» ص11

لكننا في قصة (منزل السيدة جميلة) سنعيش أجواء الحب ولذة الانتظار، واستطاع القاص أن يمنحنا انطباعاً بوحدة الأثر، وأن يقص حكاية جميلة بحدث واحد في مشهد متصل مستخدماً التقنية السينمائية (الفلاش باك).

تأخذ القصة الأخرى (ليلة أرجوان) موضوعاً مكرراً في السرديات والمرئيات العربية، وهو موضوع زواج الرجل الغني الكبير في السن من فتاة صغيرة جميلة وفقيرة!! ولو أن القاص استطاع أن يأخذ زاوية جديدة للنظر لربما جاء بقصة متميزة، لكنه اختار سرير الزوجية لتصوير القصة، واستخدم صيغة الراوي العليم، فسلب الشخصيات حقها في إبداء مشاعرها ووجهات نظرها، فما عاد الكاتب في القصة الحديثة يعرف كل شيء، ولا يستطيع أن يصف مشاعر كل شخص وآلامه.

لكنه في قصة (تحت البرج) استطاع أن يلتقط في نهاية القصة زاوية جديدة للنظر، واستطاع أن يبرز التضاد بين البرج المرتفع إلى الأعلى وحالة أسرة تضطر إلى التسول بحيله المعروفة، وقد مسها الحصار وضآلة الأجور، وقد استمر تسولها حتى بعد السقوط !!

وتذكرنا قصة (الطريق إلى الماء) بقصة ماركيز الشهيرة (الوقائع الغريبة والعجيبة لقصة أندريانا الطيبة وجدتها الشيطانة) « ويوم تعتذر لعمتها بأنها متعبة وبودها أن تمكث نائمة، تعنفها العمة بصوتها الشبيه بصوت خوار الثور لتعلن صائحة..» تصور القصة بصيغة الراوي العليم يوماً مكرراً في حياة المومس (هدية) وبرمها من حياتها، وتوقها للتخلص من الإثم، لكنها لا تجد في المساء غير ماء النهر ليخلصها من الحرام، ثم تنتهي القصة بأحدهم وهو يغتصبها على الجرف. ولعل الجديد في هذه القصة هو طقس التطهر في الماء، وهو طقس تعبدي عراقي.

أما أكثر القصص ثراء بالحوار فهي (بعد منتصف الليل) وفيها يجري حوار تليفوني جميل بين امرأة ورجل لا يعرفان بعضهما، يريدان أن يتخلصا من الوحدة في الوقت الذي يشتعل فيه جانبا الخط بالهاونات والقذائف! ولا شك في أنها قصة ناجحة بفضل طريقة الحوار التي يستطيع فيها الرجل والمرأة التعبير عن أحلامهم بحياة مستقرة وآمنة في ظل أوباش كلاب يتصارعون على السلطة من خلال السلاح الثقيل في مدينة صغيرة، أما أسماء الشخصيات (حليم الجوال وهناء) فقد أضفت على القصة مزيداً من الحيوية.

وتدان الحرب أيضاً في قصة (صباح الأوجاع) حيث يقوم الجندي بتعداد التوابيت لتزجية الوقت لكننا نفاجأ في نهاية القصة بثلاجة للموتى المجهولي

الهوية!

ونلتقي في قصة (تل السرطان) بالجد الأعلى لأسرة تبحث عن الميراث بانتظار موت الجد، ولكنه يأبى أن يبوح بمكان الكنز، فيضطرون لحفر الحديقة بحثاً عنه، استطاع القاص هنا أن يوظف حادثة واقعية متكررة في إنتاج قصة رمزية عن العراق، فالجد « شهد حروباً وأمراضاً…قدم الكثير من الشهداء والمفقودين والمعاقين والأسرى والمجانين…»ص93 فمن غير العراق المعاصر يمثل هذا الجد؟!!

ولكن البطل الراوي ينسى نفسه قليلاً فيقول «كان جدي بلا إنسانية، مفرغاً من العاطفة والحنان» ص92 وهو حكم يجب أن يستنتجه القارئ، لا أن يبوح به الراوي!

وأستطيع القول بثقة الآن، أن صبري الحيدري، استطاع أن يختار موضوعات ساخنة من البيئة المحلية المعاصرة، تدين الحرب بطريقة غير مباشرة، وألبس بعضها الميثيولوجيا، واختار شخصيات مقهورة، رسمها بدقة وهي تحاول التخلص من واقعها بالحلم أو بالفعل، فلا تستطيع!!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر الأخبار