
أدباء يعيدون قراءة تاريخ الجيش العراقي ثقافياً
أربعة وتسعون عاماً من عمر الجيش العراقي، هذا التاريخ وهذه السنوات الطويلة شهد فيها تحولات من الصعب إحصاؤها، داخلياً وخارجياً. انتصر فيها مرّات، وهزم مرّات أخرى، حاله في ذلك حال أي جيش في العالم، لكنه مع هذا يعود من جديد ويبني نفسه بعد أن يسعى لتغيير أسباب فشله والحفاظ على أسباب النجاح. التحولات التي مرَّ بها الجيش العراقي يمكن أن تقرأ من أبواب عدّة، عسكرية، اقتصادية، سياسية، ومهنية… غير أن هناك قراءات أخرى تهمل دائماً بحجة أنها بعيدة عن الموضوع، مثل القراءة الثقافية لهذه السنوات الأربع والتسعين، وهو ما سعينا في استطلاعنا هذا على العمل عليها. فكيف يمكن أن نقرأ الجيش العراقي وذكرى تأسيسه ثقافياً؟
كيان خاص
ينظر الكاتب عباس الحسيني إلى الجيش ضمن ثلاث مراحل، أولها التأسيس والخوض في التحديات العراقية الداخلية، والثانية وهي مرحلة وضع الجيش بيد الحزب الواحد، وصولاً إلى المرحلة الحالية، التي قد توصف، وبقوة مرحلة التشتت، أو البحث عن الهوية المطلقة، إذ تلعب دوائر الصراع على تشتيت وجودية واتجاهات الجيش العراقي، والتشكيك بقدراته ونواياه، واتهامه بأقسى التهم.
ويضيف الحسيني أن الجيش العراقي يعدُّ نسقاً مهماً ضمن بنية الدولة العراقية، وضمن بنية التفكير والوجدان الاجتماعي، فلم تسجل أية مواقف معيبة لهذا الجيش ولم يهزم في معارك مفتوحة ذات مراس طبيعي، وهو ما جعل قوى الإرهاب وغيرها تتجه إلى أساليب الغدر والتنكر وتنصيب المكائد.
“قدم الجيش العراقي خلال تاريخه المشرف تضحيات جمة لا سبيل لحصرها، وهو جيش عقائدي متمرس تختزل فيه كل معاني الرجولة والبطولة الحقة والمبادئ الإنسانية مع ملاحظة أن المجازر والمواقف التي لا تليق بالجيش العراقي أو جيش آخر.
إنما ارتكبت أو كانت ترتكب بأوامر عليا وتنفذ على أيدي قادة ذي انتماءات معينة لا تمثل الجيش ولا الجذور وسمات التخلق التي جبل عليها”. ويتمنى الحسيني أن يكون لجيش العراق كيانه وموقفه الخاصان به دائماً، ككيان وكمؤسسة عسكرية مستقلة في كل مواقفها وتوجهاتها.
قراءة التاريخ
يقرأ الناقد علي سعدون الجيش العراقي علاماتياً، فيرى أن القيم الوطنية تفترض مجموعة من العلامات الدالة على أهمية المؤسسات الوطنية التي تـُعد جوهر تلك القيم، ومن بينها “الجيش” بوصفه العلامة الوطنية التي لا تختلف حيالها الأدبيات والايديولوجيا مهما اختلفت اتجاهاتها وتباينت ميولها. كل ذلك سيدفع بالنظر إلى الجيش بوصفه القيمة الوطنية الأكبر والأهم.ويبين سعدون أن الثقافة في العراق، و”أعني منتجها الأدبي على وجه التحديد، لم تحتفِ كثيراً بمؤسسته العسكرية الوطنية الكبيرة، إنما؛ وهذا ما يظهر دائما في الإعلام على الأقل، تضع تلك الثقافة (الجيش) في منظومة الهتاف والتعبئة لأغراض سياسية نفعية في أغلب الأحيان، ولم تنظر تلك الثقافة في جوهر وجوده وقراءته ثقافياً، مواقفه وتاريخه”. ويعتقد سعدون أننا اليوم؛ وفي خضم التحديات الكبيرة التي يتقدمها الإرهاب الأسود الذي يزعزع أمن الوطن من شماله إلى جنوبه، بحاجة ماسة إلى إعادة قراءة ذلك التاريخ بعين فاحصة.
صورة الجندي
تقرأ الشاعرة آمال إبراهيم الجيش من خلال صور الأحداث التي قلما تخلو من ظل جنديّ أو شهيد، مشيرة أن لكل حقبة بصمتها التي ترسم ملامح الجيش العراقي في صفحات الاطمئنان أو التوجس، صفحات الولاء للأقوى أو فلتات نصرة الأضعف، فالطفولة كانت زاخرة بأناشيد (الجيش سور للوطن) وتربينا على حبه مدرسياً، أما البيت والسهر جنب المذياع لنلتقط أسماء المفقودين من الإذاعات الممنوعة جداً، فقد عكست ويلات الحروب التي كان الانتظار ألعنها، كان الموت لحظة في الجبهات، وكان سنوات لا تنتهي في العائلة. وترى إبراهيم أن الجيش بوصفه اللغوي الذي يشير إلى الجماعة الكثيرة، يشير بطبيعة الحال إلى موطن قوة للدولة (القانون)، لكن ما أن يتحول (الجمع) إلى قبضة الحاكم الحديدية التي تطال كل مَنْ من شأنه النظر خارج ركب السطوة المؤسِسة للدكتاتورية وحكم الفرد،
حتى ينشب الشرخ بين الأداة وأخلاقياتها المغيبة..
فيعاني المنخرطون في صفوفه التمزق بين الإبقاء على حياتهم، وبين حمية الأخلاقيات والنخوة التي اشتدت عليها أجسادهم، هكذا تنحت السواتر ثورات في الروح قد تدفع بصاحبها للفرار لإنقاذ ما تبقى من بياضه الإنساني.
متنوع الأطياف
يعتقد الشاعر والصحفي علي الشيال أن الجيش العراقي بعد العام 2003 تغيرت معالم بنيته وأصبح جيشاً يضم العديد من أطياف الشعب بعدما كانت قياداته حصراً من فئة معينة وبدأ يشتغل
على ثيمة وطنية عراقية خالصة.. ويأسف الشيال لإعادة بعض القيادات التي تسببت بانهياره في زمن النظام السابق، مضيفا على الرغم من كل المؤامرات الإقليمية وضعف التجهيز، حقق الجيش العراقي بعد العام 2003 انجازات عدة وانتصارات كبيرة”.
يؤكد الكاتب كريم السيد أن مؤسسة الجيش قدمت الكثير للعراق والعراقيين ولغير العراقيين أيضاً، وأعطت الكثير من البطولات والصولات التي جعلتها في طليعة جيوش
العالم على مستوى المهنية والتنظيم والتسليح ونوعية الجندي العراقي، لكنها تراجعت كثيراً بعد مغامرات الحروب
الطائشة للنظام الدكتاتوري المقبور وتأثرها بأوضاع العراق
الاقتصادية، ناهيك عن حل الجيش بعد التغيير وانكساره بعد سقوط النظام. ولهذا أعيد تشكيل الجيش العراقي ببداية متواضعة تشبه وجه البلاد بديمقراطيتها الجديدة بتحدياتها وصراعاتها، ما جعل منظومة الجيش تعيش محنة الدفاع عن نفسها للوقوف وإثبات الذات العسكرية تارة، وعن العراق وأرضه تارة أخرى.. “الآن، وبينما نحن نكتب بأمان ثمة
من يقاتل ويجود بالنفس نيابة عنا.
إنه جيشنا الذي نريده أن يكون حصننا وسورنا الذي يحمينا من قتلة الحياة، إذ لابد من وجود جيش قوي قيادة وتنظيم وعقيدة عراقية
خالصة مع إعادة ترميم ما لحق به السوء طـوال الفترة لماضـية.