
“المقهى”.. صرخة وطن ضد العنف
حفرت مسرحية “المقهى” التي قدمتها الفرقة الوطنية للتمثيل من على خشبة مسرح الرافدين مؤخرا بإزميل الحقيقة حجر الصمت، وشكلت بوحا مؤلماً وصريحا للمسكوت عنه. لا يعد التفسير أو التأويل في مثل هذه العروض نقدا، إذ نجح المخرج في بعض المشاهد حين سحب المشاهد ليكون جزءا من العرض ومشاركا فيه، فثيمة العمل هي الحرية بما تمثله من أبعاد لحرية الرأي والتعبير والعيش الشريف والحب والموقف من الحروب ..مقابل هيمنة قوى التخلف والطائفية والعنف.
المكان الذي قدم فيه المخرج الفكرة هو المقهى، وهو البرلمان الشعبي الشبيه ببرلمان الوطن، فكان العرض بصيغة قول في اذن الهامسين ونظرة لعين المتلصصين، وتنور الحياة الذي يسعر بالأحداث في مقهى شعبي مملوء بالمحتملات. شكل المشهد الأول للممثلين ” حسين وهام وتحرير الاسدي” فضلا عن أصوات الطرق على استكانات الشاي ثيمة” دقات الساعة” أي الزمن العراقي الحاضر، وشكل دوران الإضاءة من اليسار إلى اليمين” تعاقب الليل والنهار” ثيمة لتكرار الفعل، وكانت بداية موفقة للعمل، ولشخصيتين ترويان أحداث العراق بصوت اللامبالاة تُشبعان بالخوف جوعنا للبحث عن الحقيقة، وبالمشهد نفسه مع قليل من الاختلاف انتهت المسرحية، إذ ان فعل التغيير بين البداية والنهاية لم يحدث، لتستفز الجمهور بسؤال” وبعدين”: هل تستكينون لذات المصير؟
أطراف الصراع
هناك ثلاثة أطراف للصراع، تكون الطرف الأول من أربع شخصيات تبحث عبر سرد معاناتها عن الحل، لتصرخ في وجه كل من أدمن القتل” ليش ماكو واحد يحجي؟” . مثل”مرتضى حبيب” دور المثقف والصحفي الواعي، بينما جسدَّ “وسام عدنان” دور الكاسب – الخريج الذي أهلكه الحصار ليبيع باب البيت وشباكه واثاثه، علَّ الريح تحمل له فرصة عيش بعد ما ملَّ من الوعود وطابور العمل في صحراء العوز. أما العاشق ” محمد بدر” الذي أحب فتاة من “ذاك الصوب” ومن طائفة أخرى، كان مدار تجسيد لمفهوم الصوبين في العرض، أي أنهما مكانان وعاشقان وثمة ملثمون يفترشون الطرقات ليحصدوا بمناجل الطائفية أرواح طوقها الياسمين. أما العسكري ” ياس خضير “، فهو من ذاق طعم حروب الدكتاتور التي لم تنته إلا بالخسارة، يتساءل هو الآخر إلى متى نبقى نخوص حروب الآخرين؟ أربعة افترشوا همومهم في وسط زحمة المقهى الشعبي الذي مثلَّ بؤرة الأحداث.
الطرف الثاني، كان حاضرا عبر شخصيتي ” حسين وهام وتحرير الاسدي” مثلتا صوت الخوف المغلف باللامبلاة، ليرددا عبارة “احنا شعلينا ” إكسيرهما الذي يقتل بهاجس الخوف كل صوت يعلو بوجه الظلم، لتكشف تداخلاتهما مع الطرف الأول جوهر الصراع وثيمة المسرحية.
أما الطرف الثالث، فكان المحرك والفاعل للطرفين الأول والثاني ( فتمثل بقوى الآخر والإرهاب والطائفية)، التي اختار لها المخرج ان تكون غائبة مثلها بالظلمة، إلا انها حاضرة وبقوة في تفاصيل الحياة والأحداث والنتيجة كانت قتل الشخصيات الأربع في نهاية العرض.
الإخراج
ست شخصيات أدارت لنا المعاناة، تذكرنا بمسرحية بيرانديلو “ست شخصيات تبحث عن مؤلف” .
وهي عن مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. اثنان منهم واصلا الماضي بالحاضر، وكأن الزمن لا يتحرك، هما الجندي والكاسب، بينما ارتضى المثقف والعاشق، أن يكونا صلة بالحاضر،أي كما لو كانا يعيشان ما نحن فيه. تسارعت إيقاعية العرض تدريجياً، وهي بديهية، مع هذا النوع من الحكايات التي تكتب تساؤلها الأكبر نهاية العرض بعد أن مهدت له تدريجياً، كما ان التحولات بين مشهد وآخر تتم عبر تعابير الوجه والصوت فقط، وليس تغيير الأزياء أو الديكور اللذين مالا الى التجريد.
ملاحظات عامة
أخيراً، لا بد من القول سجل موضوع العمل حضورا لافتاً في المسرح العراقي، لا بل ان مسرحيات مثل ” احلام كارتون” و” عربانة” و ” برلمان النساء” وغيرها من الأعمال دارت في الموضوع ذاته، ولكن بمعالجات متنوعة، فضلا عن أن شخصيات مثل العسكري والمثقف والكاسب والعاشق تكررت هي أيضاً في العروض السابقة، ولنا نماذج حية في مسرحيتي “أحلام كارتون والعربانة ” مؤخراً ومسرحية” الذي ظل في هذيانه يقظا” سابقاً.
كنا ننتظر أن تطرح شخصيتا الجندي والكاسب آفاقا أبعد من كونهما جنديا وكاسبا، كي تبتعد المسرحية عن المألوف في المعالجة لتتحق متعة التشويق . فالمقهى ديوان شعبي، وأصوات الاستكانات إيقاعية زمنية متواترة منذ العثمانيين وإلى اليوم، إن مثل هذه الجزئيات بإمكانها أن تغني العرض، وهي بالفعل موجودة، ولكن بحاجة إلى رؤية إخراجية تفجر طاقات الأشياء الشعبية.سجل هذا العمل بطاقات ممثليه الذين امتعنونا، حضوراً واعدا على خشبة المسرح.