
أسطورية السياب
بقدر ما يكون الشاعر صانع أساطير، فإنه بالقدر ذاته يكون هو نفسه صنيعة أُسطورية لذاته.
وبالنسبة لشاعر كالسيّاب لا يجب التعويل على إدراك صورته، في ما هو متعارَف عليه، من وقائع طبيعية، من ولادة في البصرة ودراسة في دار المعلمين العالية وصلات ما ببيروت وباريس ولندن، وخوض غمار الحياة، برقاً وعواصفَ ومطراً. فليس في السياب ما هو واقعي إلا هذه العناصر الأخيرة، أي عناصر تخصيب الأسطــورة ـ أُسطورتـــه، من برق وعواصف ومطر، وهي عناصر الشعر أيضاً، شعره على وجه الخصوص، حيث صورته الحقة لا يشكلّها إلا الغـيب والكلـمـات.
بثمانٍ وثلاثين عاماً فقط، كأنما عاش السيّاب الأزمنة كلها وخبِر الآلام كلّها وبلغ الذرى كلّها وعرف النهايات كلّها. بهذا المعنى يقول: “أشعر أنني عشت طويلا. لقد رافقت كلكامش في مغامراته، وصاحبت عوليس في ضياعه، وعشت التاريخ العربي كلّه. ألا يكفي هذا؟”.
الشاعر هنا ينطق بروح الأسطورة التي فيه.
والأثر الأسطوري، ليس بمعنى استخدامه للأُسطورة وتوظيفها في شعره، بنجاح أو اخفاق، فهذا ليس من شأن هذه الكلمة أبداً ـ بل بالمعنى المتقدم آنفاً، أي أن يكون الشاعر ذاته ببعد أو أبعاد اسطورية في قصائده. وجذر هذا الحس يعود باعثه ـ من بين بواعث أخرى ـ الى حزنه العظيم وعبقريته الكبيرة.
من بين شواهد شعرية عدة على ذلك، يقول في قصيدته المعروفة “غريب على الخليج”:(..فأنا المسيحُ يجرّ في المنفى صليبه)، هذه الصورة الخالدة ليس في شعر السياب فحسب، بل في الشعر العربي برمته، إن لم تتجاوز ذلك.
والفخامة التي تتبدّى بها معانيه متأتية من أسطرةالشاعر لما هو واقعي، والانطلاق من الشخصي الى الكوني.
الشاعر هنا يتماهى بالمسيح، جارّاً صليبه على امتداد المنفى ـ العالم وعلى مرّ الأزمنة، فإن يعمد الشاعر الى تمثّل المسيح، هو، بدءاً، ارتقاء في سلّم الأسطورة ومن ناحية أخرى تصعيد في حسه المأساوي حتى الذروة.
يقول يوسف الخال في تقديمه لكتاب عيسى بُلّاطــــــة، بدر شاكر السياب، حياته وشعره:”… السياب، في حياته وموته، مأساة قلما عرفها الشعر في كل تاريخه. وكم كان يذكرني بأيوب..”. بين المسيح وبين أيوب والقديس يوحنا لابدّ أن تكتمل أُسطورة الشاعر، ففي شخصيته ليس من حد فاصل بين ما هو ميتافيزيقي وبين ما هو واقعي، يقول عن مهمة الشاعر “لو أردتُ أن أتمثّل الشاعر الحديث، لما وجدتُ أقرب الى صورته من الصورة التي انطبعت في ذهني للقديس يوحنا، وقد افترست عينيه رؤياه وهو يبصر الخطايا السبع تطبق على العالم كأنها اخطبوط هائل”.
وحتى على صعيد نشاطه الكتابي الذي استغرق ما يقارب الثمانية عشر عاماً فقط أو أقل، فإنّ نتاجه لا يُقاس مطلقاً بهذه الأعوام القليلة، تنوعاً ووفـــرة. وكما يقول ناجي علوش في مقدمته لديوان السياب:” أعطى بدر خلال حياته القصيرة عطاءً جزيلاً، يفوق من حيث الكم والكيف ما أعطاه أيّ من معاصريه”.
ومن ملامح السياب الأُسطورية أيضاً، انّ “التاريخ وجد فيه خيطاً يصل جاهلية العرب تلك بجاهليتهم في القرن العشرين” بتعبير الخال. وهو صنو كلكامش حقا، فقد”حاول أن يتخطى عذابه في بحثه المأساوي عن الحقيقة وفي سعيه الدائب للوصول الى مفتاح الخلاص الفردي والإجتماعي”، كما يخلص الى ذلك الدكتور عيسى بُلاطة في كتابه المشار اليه.
وهذه من صفات أبطال الأساطير، ففي صفات أو أدواركهذه تأكيد لأسطورية السياب دون تسميتها.
ويصف أنسي الحاج السياب بأنه “جاهلي بدوي فولكلوري خرافي انكلوسكسوني على واقعي هجاء ورثّاء مدّاح بكّاء، يسيل به الشعر سيل قريحة فارطة، ويسيل معه الشعر حتى الموت”.
وهو تأكيد على أسطوريته وليس كاريكاتيريته كما يرى البعض.
* شاعر عراقي مقيم في السويد