الكاتب / كريم محسن
احتجاجات المعلمين في العراق كانت بمثابة مؤشر على واقع مرير يتجاوز قضية حقوقهم إلى انعكاسات أعمق تعكس الأزمات المتراكمة في القطاع العام وتحديدًا في مجال التعليم.
ومع أن هذه الاحتجاجات بدأت كحركة مطلبية لموظفي القطاع التربوي من أجل تحسين أوضاعهم المالية والمعنوية، إلا أنها سرعان ما ستحول إلى ساحة للصراع السياسي، حيث سوف تدخل فيها أطراف متعددة تسعى كل منها للاستفادة من هذا الحراك بما يخدم أجنداتها.
عندما انطلقت الاحتجاجات في بداية الأمر، كان الأمر يتصل بمطلب بسيط؛ حق المعلمين في الحصول على راتب عادل، وتحسين ظروف عملهم المزرية. لكن مع مرور الوقت، ستتحول هذه المطالب إلى وسيلة للظهور السياسي، حيث سيصبح مشهد الاحتجاج ميدانًا لممارسات انتخابية بحتة.
ليس المعلمون وحدهم من وجدوا في هذه الحركة فرصة لتصعيد مطالبهم فقط، بل بدأت أطراف سياسية متعددة ترى فيها فرصة لشد انتباه الشارع واستغلال الوضع لصالحهم. الكل أصبح يبحث عن فرصة لرفع شعارات رنانة في مواجهة الحكومة.
لكن ما يجب أن يُفهم هنا هو أن هذه الحركات التي تروج للمطالب الشعبية ليست دائمًا بريئة أو نابعة من أبعاد اجتماعية حقيقية. بل يمكن النظر إليها باعتبارها جزءًا من سوق انتخابي واسع، حيث يسعى الجميع للوصول إلى الهدف نفسه: حصد المزيد من الأصوات في الانتخابات المقبلة.
من جهة أخرى، لا يمكن تجاهل استغلال بعض النواب وذيولهم للموقف كفرصة لفرض أنفسهم كمدافعين عن مصالح المواطنين. على اعتبار انهم المدافعين الفعليين عن حقوق المعلمين أو غيرهم من شرائح المجتمع، بل هم في الحقيقة أكثر اهتمامًا بالحصول على الزعامة الإعلامية التي قد تفتح لهم أبواب الفُرص الانتخابية.
وهذا هو ما يجعل الوضع في غاية التعقيد، فالحكومة تجد نفسها مضطرة للرد على هذه الاحتجاجات، ولكن لا شك أن الرد يأتي في وقت بالغ الصعوبة، إذ أنها لا تستطيع تجاهل الحراك الاجتماعي دون أن تظهر في وضع جيد أمام المواطنين. لكن في المقابل، كان لهذه الاحتجاجات جانب آخر يتمثل في فرص جديدة للبعض من خلال فتح المجال للظهور الإعلامي والسياسي، حيث تبرز بعض الشخصيات السياسية في الصورة لتكون هي من تلبي حاجات المواطنين.
فبعض النواب، على سبيل المثال، استفادوا من هذه الاحتجاجات في محاولة لتسويق أنفسهم باعتبارهم الأبطال المدافعين عن الحقوق، ولكن في الواقع هم يمارسون لعبة سياسية تهدف إلى تأكيد وجودهم على الساحة السياسية. أينما نظرنا، نجد أن كل طرف يسعى لاستغلال هذه الاحتجاجات في مزايدات انتخابية.
لا يتوقف الأمر على المعلمين أو النواب، بل يشمل أيضًا بعض المنظمات المجتمعية، والناشطين الذين يسعون لتسليط الضوء على قضايا معينة قد تكون ذات صلة بما يحدث. وهكذا، يتحول الحراك الاجتماعي إلى سوق انتخابي، حيث يتصارع الجميع للحصول على أكبر حصة من الانتباه والشعبية، في وقت حساس للغاية. ما تفتقده هذه الاحتجاجات هو الوعي الكامل بمسؤولية المواطن تجاه قضيته الحقيقية.
فعندما يخرج المعلم للاحتجاج ضد ظروفه المعيشية، ينبغي أن يكون هذا الاحتجاج نابعًا من رؤية شاملة، تهدف إلى تحسين الوضع العام للقطاع التعليمي وتوفير بيئة مناسبة للتعليم. ولكن للأسف، أصبحت هذه المظاهرات عرضًا سياسيًا يتنقل من يد إلى يد. وأصبح المطلب الأساسي الآن هو إظهار القائد أو الحزب الذي سيحقق للمواطن مصلحته الفردية في ظل الاحتجاجات الشعبية.
إن المتتبع لهذه الظاهرة يرى أن المسؤولية تقع في النهاية على الجميع: المواطن، والسلطة، والنخب السياسية. المواطن مطالب بالوعي الكامل بأن حقوقه لن تأتي عبر انتهاج سياسات متعجلة أو مجرد رفع الشعارات. كما أن الحكومة، بكل أطيافها، مطالبة بأن تتحلى بالشفافية وتعمل على معالجة القضايا الحقيقية بدلاً من أن تكتفي بمناورات سياسية لا تجلب سوى الخيبة والخيارات الخاطئة.
أما بالنسبة للأحزاب السياسية والنواب الذين يتخذون من هذه الاحتجاجات فرصة لتسويق أنفسهم، فيجب أن يدركوا أن الشعارات وحدها لا تكفي. فالمواطن، حتى وإن كان يواجه ظروفًا صعبة، لن تنطلي عليه شعارات فارغة تبحث فقط عن مصلحة انتخابية ضيقة.
في النهاية، تحولت الاحتجاجات من قضية مطلبية محقة إلى ساحة صراع سياسي تتداخل فيها الأهداف وتتصادم المصالح. هذا الوضع يعكس حقيقة أن العراق ما زال يعاني من أزمة في فهم العلاقة بين المواطن والسلطة، وكيفية التعامل مع القضايا الاجتماعية بعيدًا عن التوظيف السياسي الذي يضر أكثر مما ينفع.