المندائيون ومحنة الوطن

علاء كولي

منذ بدايات الإستيطان الاول في هذه المدينة قبل تأسيس الناصرية، كان الصابئة المندائيون قد عاشوا هنا بسلام، حيث كانت حياتهم تسير  بشكل بسيط وهادئ، وعاشوا مع الناس من أديان مختلفة كالمسيح واليهود الذين كانوا يوما ما يتواجدون بأعداد لابأس بها في عدد من مدن المحافظة.

هذا الإستيطان القديم منح المندائيين فرصة كبيرة للتأقلم في هذه البقعة، ورغم أنه لا يوجد تاريخ دقيق حول وجودهم في الناصرية، الا أنهم كانو جزءا من تراث وذاكرة المدينة التي كانت تحوي على الكثيرين من أصحاب الديانات الأخرى، ولكن الحديث الأقرب هو أنهم تواجدوا مع بدايات وجودهم في ميسان.

ومع إنتقال أحد أبرز أعلام الصابئة وهو الشيخ داخل عيدان داموك من محافظة ميسان الى الناصرية كان بمثابة دعما معنويا للمتواجدين في الناصرية، وبعد وفاته فيها عام 1964 أصبح بيته المندي المعروف على نهر الفرات وسط الناصرية وهو المكان الذي يتجمع فيه الصابئة للعبادة بعد ذلك.

وطوال قرون عاشها المندائيون في الناصرية، كانت حياتهم بسيطة، فهم لا يعتمدون على الوظائف الحكومية بالدرجة الأساس، لكنهم برعوا في الصناعات المنزلية والحرف اليدوية، وعرفت الناصرية الكثير من الأشخاص من المندائيين ممن علقوا في ذاكرة الناس ببعض الحرف التي كانوا يبدعون فيها مثل صياغة الذهب.

ورغم الحقب السياسية الطويلة المختلفة والإضطرابات التي مرت بهم في الناصرية والعراق بشكل عام، كانوا يميلون الى الابتعاد عن هذه الأحداث وينخرطون في حياتهم اليومية سيما في مجال التجارة وصياغة الذهب على وجه الخصوص، ونجحوا على إمتداد تاريخي الإبتعاد عن أي صراعات جانيية تحصل.

وحتى خلال عهد النظام الدكتاتوري، تمكنوا في ممارسة حياتهم بشكل حذر رغم المضايقات التي مارستها السلطة على بعض الأفراد من المندائيين، لكن هذه الممارسات تجلت طويلا فيما بعد لتصنع صورة نمطية قاسية ونظرة سلبية قاصرة تجاههم وشيطنوا وجودهم وحاولوا مضايقتهم بعد الحملة الإيمانية التي قادها صدام.

وعلى إثر ذلك هاجر العشرات من أبناء الطائفة الى خارج العراق وبشكل خاص الى أوربا وإستراليا بسبب طبيعة الحياة هناك والبحث عن السلام والأمان سيما بعد الأحداث الأمنية التي حصلت ما بعد العام 2003، وانهيار الوضع الأمني دفع أبناء هذه الطائفة الى المغادرة بهدوء وحزن عن موطنهم الأول.

يقول أشخاص بارزين في الطائفة، أنهم لم يعانوا من مشاكل إجتماعية أو تمييزية، هناك نسيج إجتماعي وثيق بينهم وبين المسلمين والدليل على ذلك هناك حي الصابئة لايزال موجودا ويعيش الناس فيه بسلام، لكن مخاوفهم الأولى والأخيرة هي الوضع الأمني المتردي، وأيضا الاجراءات الحكومية وإهتمامها بهذا الطيف العراقي، إضافة للأوضاع الإقتصادية وتراجع المستوى المعاشي بالمحافظة بشكل عام.

وخلال السنوات القليلة الماضية، تم تسجيل هجرة عدد من الصابئة، سيما المتواجدين في قضاء سوق الشيوخ، فبعد أن كانت المدينة تحفل بأعداد كبيرة ، لم يتبقى منهم اليوم سوى عوائل معدودة، يعيشون في محنة هذا الوطن الكبير الذي بدأ يضيق بهم وبأحلامهم وخوفهم من المستقبل المجهول.

إن أستمرار النهج الحكومي على هذا الشكل  خلال السنوات المقبلة مع عدم الإكتراث لوجود هذه الطائفة المهمة بتاريخ المدينة سنشهد مغادرتهم بالتدريج وهو أمر مؤلم أن نصل لهذه المرحلة، ونحن نشاهد الجميع يغادرون مدينتهم الأم بهذا الحزن والألم دون أن يعي أحد لخطورة إفراغ البلد من المكونات الدينية وربما قد نشهد إختفاء جزءا مهما من الثقافة التي يحملها أبناء هذه الطائفة مثلما فقدنا الكثير منذ بداية نشوء الدولة العراقية وحتى الان.

Comments (0)
Add Comment